خلال الأسبوع المنصرم تابعت - كغيري – بشغف ما قيل حول تأجيل تقرير جول دي ستون ، ولعل أكثر الناس قد أصابتهم الدهشة البالغة ، ليس لتأجيل القرار فحسب ؛ بل لتلك التبريرات الفاضحة التي دافع بها زعماء وقادة فلسطينيون اسماً: أمثال عباس وغيره، تلك التبريرات التي لا يقبلها عقل ولا يصدقها شريف ولا تنطلي على أحد ، وأنا أجزم بأن قائليها هم أكثر الناس
معرفة بكذبهم ، ولا أجد لهم مثلاً إلا كما ذكر عن عمرو بن العاص - قبل أن يسلم – حين وفد على مسيلمة ، فجعل مسيلمة يؤلف أشعاراً وأخبره أنه نبي كمحمد ، فلاحظ عمرو بن العاص الفرق بين القرآن وكلام هذا الدجال فقال مقولته الشهيرة : يا مسيلمة والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب ، ومثلاً آخر كما ذكر عن أشعب الذي كذب على الصبية فأشار لهم بوجود وليمة هناك ليتخلص منهم ، ثم صدق كذبته ولحق بهم ، فلما اكتشفوا كذبه طاردوه ثانية يرجمونه بحجارتهم.
لقد قالت العرب في الأمثال: "الرائد لا يكذب أهله" ، هكذا بلا توكيد !! ويا لها من حكمة بالغة تلخص تجارب الماضين وتودعها سجل الحياة الزاخرة ، وكما جاء في مجمع الأمثال : الرائد :" هو الذي يقدمونه ليرتاد لهم منزلاً أو ماءً أو موضع حرز يلجئون إليه من عدو يطلبهم , فإن كذبهم صار تدبيرهم على خلاف الصواب , وكانت فيه هلكتهم ، أي أنه وإن كان كذابا لا يكذب أهله , يضرب فيما يخاف غبَّ الكذب ".
إذاً هو المستطلع لأمر قومه ، وعلى خبره يكون قرارهم ويترتب مصيرهم , فما أعظمها من أمانة وما أخطرها من مهمة ، وإن كان العرب في جاهليتهم قد وصلوا إلى درك بعيد من الجهل والتخلف والظلم ؛ إلا أن حياتهم لم تخلُ من نفحات مكارم وأخلاق أقرها الإسلام وأحسن توجيهها حتى أشتهر بذلك أشخاص وقبائل وسار بذكرهم الركبان وجرت بهم الأمثال .
وهنا نجد أن العرب الأوائل الذين توقفت حياتهم على مصادر الماء والكلأ وغزا بعضهم بعضاً بسببه , نراهم يختارون لمهمة الريادة من يثقون به ، ليس فقط لعلمه وخبرته وشجاعته ؛ بل لصدقه وأخلاقه وأمانته , وقد كان المعهود ألا ُيقَّدم لمهمات الريادة والقيادة إلا من حاز على تلك الصفات , فالقائد دوماً في مقدمة قومه ، وهو يكاشفهم ويصارحهم ويشاركهم الرأي والمصير ، يصيبه ما أصابهم , ولا يُسلمهم لعدو ولا يلقيهم إلى مهلكة , ولا يفرُّ كما نري اليوم بطائرة أو يلجأ لسفارة أجنبية , ولقد جاءت صيغة المثل على وجه البداهة والحقيقة التي لا تقبل الشك أو النقص أو النقض , سواءً لمفهوم اللفظ أو مقتضي اللزوم , لم يكن أحدهم يتصور أن يكذب الرائد أهله – قومه وعشيرته - فهم واثقون من ولائه وحسن تقديره لعواقب الأمور وتغليبه للمصلحة العامة ، ويعلمون أنه قد يكذب ويخادع عدوه في قتال ، وربما تصوروا منه أن يكذب في أي أمرٍ إلاَّ في المهمة التي انتدبوه لها وأسلموه بها أمرهم ومصيرهم .
ومع الأيام امتد مفهوم الريادة إلى معاني القيادة ، واصطلح للفظ الرائد مرتبة قيادية خاصة , والعبرة بعموم المعنى " وكل راع مسئول عن رعيته " , وجاء الإسلام ليؤكد أنه ليس هناك منقصة ورذيلة كالكذاب ولا مكرمة وفضيلة كالصدق ؛ بل إن الصدق رأس كل فضيلة وإن الكذب رأس كل رذيلة ، قال صلى الله عليه وسلم " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً , وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " ، وكما قال إياس بن معاوية: (امتحنت خصال الرجال، فوجدت أشرفها: صدق اللسان) ، فما أخطر الكذب في حياة الناس وما أرذله من خليقة وما أسوأه من عاقبة !
وإن خطره وسوأته تزداد وتتضاعف حين يقع من الكبار والقادة والزعماء ، فكذبة الكبير كبيرة ، وكلٌّ يؤخذ بذنبه على قدره ، فيا ويل القادة الذين يخادعون شعوبهم ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، فيكذبون كما يتنفسون، ولا تكاد تعد لهم صدقاً ، وما أكثر هؤلاء في زعماء هذا الزمان، ترى الواحد يقال عنه كما جاء وصفه في الحديث الشريف: ما أظرفه ! ما أحكمه ! ما أعظمه! وهو عند الله لا يساوي جناح بعوضة ، فما أكثر ما يكذبون ، بل أشنع ما يفترون وتطير بكذبهم الآفاق فيَضلون ويُضلون وما أقلَّ ما يصدقون ، فإن عقوبة ذلك الرجل الذي يغدو من بيته فيكذب الكذبة ينصر بها هواه ، فتبلغ كذبته الآفاق ، كما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم أحد الزبانية على جانبيه بكلوب من حديد يشرشر به شدقه ومنخره وعينه إلى قفاه .
وما أروع ما يقول زياد في خطبته البتراء: (إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة ، فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلَّت لكم معصيتي ، فإذا سمعتموها فاغمزوها فيّ واعلموا أن عندي أمثالها).
وكم وقفت مشدوهاً وأنا أتأمل موقف أبي سفيان رضي الله عنه وجوابه لهرقل الروم وقد سأله عن محمد صلى الله عليه وسلم ، يوم أن كان زعيم المشركين في مكة ومن ألد أعدائه ، وكيف تمنعه المروءة أن تسجل عليه العرب أنه كذب كذبة واحدة في سجل حياته الطويل ، فتباً لقادة الإفك والزور والبهتان الذين لا يعرفون المروءة ، فلا نامت أعين الجبناء!!
ولو سألنا لماذا يكذبون ويخادعون؟ فالجواب واحد لا ثاني له: إنها الخيانة والخسة والرذيلة التي جبلوا عليها ، إنها الأنانية المفرطة والحرص على مصالحهم وكراسيهم الزائلة ، إنها محاولات التزيين والتجميل لباطلهم والإخفاء لجرائمهم ومظالمهم بحق الله وحق شعوبهم ؛ بل حق أنفسهم ، كأنهم قد حرموا على أنفسهم الصدق واستحلوا الكذب حتى أدمنوا عليه ، فهم يظهرون ما لا يبطنون ويسِّرون مالا يعلنون ، وينسى أولئك أن علام الغيوب ، الذي يعلم السرَّ وأخفى ، هو لهم ولكيدهم وإفسادهم بالمرصاد بعقاب عاجل قريب في هذه الدنيا عذاب الخزي وسوء الخاتمة والأخذ الشديد ، بل وتتابع اللعنات لهم بعد موتهم ، حين يستذكر الناس أفعالهم ، وتنشر الصحف فتفضح كل مستور بغيض وربما من أقرب المقربين لهم ، وعقاب الآجل بعيد في الآخرة ، وحينها " سيعلم الذين كفروا أيَّ منقلب ينقلبون " ، فأين من يعقل ويتدبر" . وصدق الله العظيم: ).. وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة41 .