غزة - صحيفة فلسطين
مجزرة الزيتون التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي الشهر الجاري، كانت افتتاحية عام 2008م، هذه المجزرة ستبقى بشهدائها العشرين الذين راحوا ضحيتها، جرحاً غائراً في قلوب أمهات هؤلاء الشهداء، اللاتي ستبقى قلوبهن تنزف حتى اللحظة الأخيرة من حياتهن، ومن بينهن أم رامي فرحات الذي استشهد مع رفاقه في حي الزيتون، أثناء قيامه بمهمته كمسئول فصيل..هذا القائد القسامي كانت له أحلام دنيوية صغيرة وأمنية كبيرة هي نيل الشهادة. لا وقت يا أبتي أم رامي التي بدت طاعنة في حزنها بدأت حديثها لـ"فلسطين" بقولها:"لقد أتى في يوم استشهاده بتاريخ 15-1 كعادته بفطور الصباح لي ولأبيه بعد عودته من ليلة رباط طويلة، وجهزّ الفطور للمرابطين، وما لبث أن خرج مرة أخرى، ليأتي لي خبر استشهاده بعد برهة من الزمن". واصلت كلماتها وهي تكفكف دموعها بقولها: "لقد قال له والده في ذلك الصباح "اقعد يا رامي معاي شوية من زمان ما شفتك"، فلم يكن منه إلا أن أجابه "يا أبتي أنا في عنقي أمانة ولا استطيع أن أخون الله والوطن، وإذا غفلت عنها سأكون غير جدير بحمل هذه الأمانة الغالية". رامي (28عاماً) الابن البكر كان هو المسؤول عن أخوته، لا سيما بعد إصابة أبيه في الانتفاضة ليصبح جريحاً، ولم يكن لأحد من أفراد الأسرة أن يتخذ قراراً دون أن يستشيره، ورغم أن أمه توسلت إليه كثيراً بأن يؤجل موضوع التفكير في الشهادة ولقاء الله عز وجل إلى حين أن تزوّج سائر أخواته، حتى ترتاح من المسؤولية الكبيرة التي كان يشاركها فيها، إلا أن شوقه للشهادة كان أكبر من كل التوسلات. وأضافت أم رامي وهي تبكي بحرقة: "لقد كان يتمنى أن يصبح وكيل نيابة، بعد أن أنهى دراسته الجامعية في كلية الحقوق ولم يتبق له سوى أن يستلم شهادته، تماما كما كانت ابنته التي لم تتجاوز الرابعة من عمرها قد استلمت شهادتها في ذلك اليوم، وانتظرت أن يهديها قبلة النجاح ودمية جميلة، ولكنه تركها هي وأمها وأخويها الصغيرين ورحل". ولم تستطع أم رامي أن تمنع نفسها من البكاء عندما قالت :"كان رامي حنوناً بشوشاً، اعتاد دائماً أن يوقظني لصلاة الفجر، وقبل أن يخرج من البيت كان لا بد وأن ينادي علي حتى لو كنت في قمة انشغالي، ليسألني إن كنت احتاج شيئاً، ويصرّ على أن ابتسم إذا كنت في حالة نفسية سيئة، وكان يهوّن علي حزني، فمن الآن سيقول لي "هيا يا أمي ابتسمي". لا زلت مستعدة للتضحية وتابعت حديثها: "ما يزيد ألمي هو أن رامي هو ولدي الثاني الذي أفقده، بعد أن فقدت العام الماضي ابني محمد، وليس من السهل على الأم أن تفقد أبناءها وفي فترة قصيرة، يا له من وجع لا أتمنى لأحد أن يتجرعه، ورغم ذلك أعود لأقول كل أبنائي فداء للإسلام ولفلسطين". ووجهت رسالة للرئيس محمود عباس قالت فيها بلهجة حادة: "أقول له كفاك احتضان يا عباس أولمرت وبوش وغيرهما، وأقول له حماس لا تنظر إلى الكراسي، بل همها هو الجهاد ومقاومة المحتل، وأكبر دليل على ذلك هؤلاء المرابطون الذين قدموا أرواحهم مثل رامي وغيره من الأبطال". وعن اتصافه بالتواضع، قالت أم رامي: "أكثر ما كان يمقته هو حب الظهور، فبالرغم من مكانته القيادية كقائد قسامي، إلا أنه لم يكن معنياً بأن يعرف أحد أنه شخص ذو أهمية، وعلى سبيل المثال لقد كان دوره يقتضي أن تكون معه سيارة، ولكنه رفض ذلك، إلى درجة أنه في البداية عندما استلم سيارة قال لي: "أشعر عندما أقودها بأنني كهؤلاء الطغاة المتجبرين الذين يمتلكون أشياء لا يمتلكها الناس العاديون، لذا لن أركب هذه السيارة مرة أخرى وسأسلمها لأصحابها". التواضع والسرية زوجته أم محمد التي لم تتجاوز العشرين بعد، حيث غدت أرملة صغيرة، وكان في صوتها ووجهها صبر عجيب، حتى أنها أبدت طاقة مدهشة من الانتصار على الحزن، وقالت :" في الفترة الأخيرة كان يدللني بشكل غريب، وفي يوم استشهاده فطرنا مع بعضنا". وبنبرة متماسكة أضافت: "لقد تزوجنا منذ أربعة أعوام، وكان كتوماً للغاية، ولكنه في نظري كان رجلاً بمعنى الكلمة، قادراً على تحمل المسؤولية إلى حد أكبر من المطلوب منه، وأكثر ما كان يجعله يكبر في عيني هو تواضعه، ولطالما حدّثني أنه عندما يتحقق حلمه ويصبح وكيل نيابة فلن يرتدي "البزة وربطة العنق"، بل سيبقى كما هو بسيطاً في مظهره وسلوكه مع الناس"، مشيرة إلى أنه كان لديها إحساس قوي بأنه سيستشهد وهذا جعل استقبالها للخبر يخلو من الصدمة بالنسبة لها، لأنه كان يؤهّلها في الفترة الأخيرة بأن موعد رحيله قد حان، ولم يكن بوسعها سوى أن تبكي بدموع صامتة دون أن تحاول أن تحول بينه وبين رغبته، لأن ولعه بالشهادة فاق كل حد حسب تعبيرها. أم رامي كانت في قمة قوتها وضعفها....هي قوة سحرية تقول لها "واصلي المشوار يا أم المجاهدين"، وضعف يتمثل في دموع الأمومة التي من الصعب أن تمنع تدفقها...، وهذا هو سر الأم الفلسطينية، التي تنتصر بأبجديات المقاومة التي تعلّمها لأبنائها منذ طفولتهم حتى لو كلفّها ذلك أن تبكي العمر كله. |