ناهض منير الريس
تناوبت على مدينة يافا بعد الثورة التي تفجرت فيها خلال ربيع عام 1921 أشواط من الهدوء المؤقت والاضطراب بين الحين والحين، نظرا لتلاصقها وتل أبيب، ولاعتماد الأخيرة على ميناء يافا في الواردات التي تصلها من الخارج. ومما يذكر أن بحارة يافا اكتشفوا ذات مرة أن إحدى شحنات الإسمنت القادمة باسم تجار يهود في براميل مغلقة لم تكن مليئة بالاسمنت بل بالبنادق ! فكان ذلك مبعثا للاضطرابات والقلاقل بعض الوقت. ولكن الأهم أن هذه السابقة عكرت أجواء العمال ورسخت الإحساس بالخديعة الصهيونية الجارية على قدم وساق. وفي نيسان ( إبريل ) 1936 أعلنت يافا الإضراب العام . وتجاوبت معها نابلس في الفترة نفسها، وما أسرع ما تبعتهما بقية المدن الفلسطينية في ذلك الإضراب، ليمتد مداه ستة أشهر منذ ذلك التاريخ ويعرف بكونه أطول إضراب في التاريخ. ولكن الأسباب العميقة كانت ـ هي ذاتها ـ أسباب جميع الثورات الفلسطينية السابقة: الهجرة اليهودية المتزايدة، واستيلاء الوكالة اليهودية على مزيد من الأراضي الفلسطينية، وتزود اليهود بالأسلحة والمعدات بصورة دائمة، والبطش البريطاني الشديد في كل مناسبة ضد الفلسطينيين أهل البلاد، وفشل المساعي السياسية والوفود والمؤتمرات والمفاوضات مع البريطانيين في التوصل إلى أية نتيجة إيجابية، أوفي زحزحة البريطانيين عن سياسة الانحياز التام إلى العصابات الصهيونية. وسبق لثورة القسام في خريف 1935 أن هزت المرجل بقوة ، ورفعت درجة الحرارة الجهادية باستخدامها السلاح ضد حكومة الانتداب وربيبتها المستعمرات الصهيونية. وليس ذلك وحسب، بل إن القساميين الذين لم ينخرطوا في الصراع آنئذ بحكم أن قائدهم قضى سريعا، قد عوضوا عن ذلك بالانخراط في ثورة 1936 ـ 1939. وصاروا من قادة مناطقها العسكرية. تشكلت في جميع أنحاء فلسطين لجان قومية في كل مدينة. وفي 25 / 4 / 1936، اجتمع ممثلو هذه اللجان في القدس وقرروا تشكيل قيادة سياسية مركزية للحركة الوطنية تكون بمثابة قيادة عامة للثورة ، تتمثل فيها الأحزاب والقوى المختلفة. وهكذا تألفت قيادة موحدة للثورة باسم اللجنة العربية العليا لفلسطين برئاسة مفتي فلسطين الأكبر الحاج أمين الحسيني. وفي الأول من أيار ( مايو ) وفي مناخ الإضراب الشامل، بدأت مرحلة كفاح مسلح جامع لجميع المنظمات السرية التي تبلورت في فلسطين ضمن إطار واحد هو جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني. وقام جيش الجهاد المقدس بعمليات ضد أهداف بريطانية وضد مؤسسات استيطانية يهودية. وفي الشهر التالي شارك العراق الشقيق بإرسال متطوعين إلى فلسطين أسندت قيادتهم إلى فوزي القاوقجي وانضم إليهم متطوعون من سوريا ولبنان.
وشنت هذه القوات هجمات ضد القوات البريطانية في مناطق المثلث. وكانت مناطق الجبال والريف الفلسطيني بمثابة قواعد إمداد وإيواء وأمان للثورة والثوار. وتواصلت أعمال الكمائن والإغارات وفنون حرب العصابات. وبذل الفلسطينيون دماءهم طائعين. وسقط من أبنائهم 224 شهيدا و 1126 جريحا، بينما كبدوا البريطانيين 33 قتيلا و 193 جريحا وكبدوا المستجلبين اليهود 80 قتيلا و369 جريحا . وتطورت العمليات من خلال هذا الزخم بحيث أصبحت قوات الثورة تدخل مع القوات البريطانية في معارك مواجهة. وأعلنت الحكومة البريطانية عن إيفاد لجنة ملكية للتحقيق في أحداث فلسطين، كما دفعت الملوك والرؤساء العرب للتوسط لدى الفلسطينيين لوقف الإضراب والثورة ففعلوا استجابة للنداء. وعادت قوات القاوقجي إلى العراق. وركزت الأجهزة السرية المعادية جهودها ضد القائد العام الميداني الأخير عبد الرحيم الحاج محمد، واغتالته في مارس آذار 1939. ولا شك أن نشوب الحرب العالمية الثانية في العام نفسه وتحول فلسطين إلى قاعدة للقوات البريطانية ومعسكراتها ومخازنها كان السبب المباشر في إرغام الفلسطينيين عمليا على وضع النهاية لهذه الثورة الكبرى. |